سوريا بعد الأسد- تحديات المرحلة الانتقالية ومخاطر المستقبل

المؤلف: محمد مفتي10.29.2025
سوريا بعد الأسد- تحديات المرحلة الانتقالية ومخاطر المستقبل

على الرغم من البهجة العارمة التي غمرت جموع الشعب السوري ابتهاجًا بسقوط الطاغية المتجبر، إلا أن هذا الحدث ليس نهاية النفق المظلم، بل هو مطلع فجر جديد ومرحلة مفصلية في تاريخ الدولة السورية. إن الأحداث المتلاحقة التي ستشهدها البلاد في المستقبل القريب، ستحدد مسار علاقات سورية مع العالم أجمع. وبينما يترقب العالم بأسره باهتمام بالغ ما ستكشف عنه الحقائق الجديدة في سورية، تتجه الأنظار بفضول إلى قوى المعارضة المنتصرة، فمنهم المترقب، ومنهم الآمل، بينما يتربص آخرون في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة من تطورات حاسمة.

يتعين على النظام الجديد، الذي بدأت تتبلور معالمه تدريجيًا، أن يتحلى بأقصى درجات الحيطة والحذر. إن نجاح الثورة السورية يتوقف بشكل حاسم على قدرتها الفائقة على ترميم وإعادة بناء الجسور التي كادت أن تنهار مع دول العالم قاطبة. ينبغي على سورية أن تمد يدها بالود والمحبة إلى جميع الدول، وخاصة الدول العربية الشقيقة، فالمحيط العربي هو العمق الاستراتيجي والجوار الحقيقي لسورية. الدول العربية هي الدعامة الراسخة التي ستمكن النظام السوري الجديد من البقاء والاستمرار في مواجهة التحديات الجسام. إن مستقبل سورية الآن يواجه تحديات هي أشد وطأة وأكثر تعقيدًا من تلك التي تواجهها ليبيا والعراق واليمن. فرؤساء تلك الدول قد تم التخلص منهم بقتلهم، في حين أن طاغية سورية، بشار الأسد، لا يزال على قيد الحياة، وتحميه دولة عظمى أجبرتها المتغيرات السياسية الراهنة على التخلي عنه مؤقتًا. هذه الدولة تترقب عن كثب ما يحدث الآن في سورية، لأنها فقدت حليفًا استراتيجيًا لعقود طويلة.

من المؤكد أن النظام السابق ليس بعيدًا عن دائرة الأحداث، وإن كان يقيم في مكان بعيد. فهو يراقب من ملاذه الآمن الأحداث عن كثب، ويتربص بالفرصة السانحة للعودة والانتقام. لذلك، فإن نجاح النظام الجديد لا يكمن فقط في التغني بالشعارات الرنانة، بل يجب عليه أن يحول هذه الشعارات في المستقبل القريب جدًا إلى واقع ملموس يعيشه السوريون، وتشعر به أيضًا دول الجوار. فلو اشتعلت الانقسامات السابقة بين أطراف المعارضة السورية مرة أخرى، فإن بعض القوى الإقليمية الخبيثة ستعمل على تأمين السلاح لكلا الطرفين، إلى أن ينهك بعضهم البعض، تمهيدًا لعودة الهارب المنتظر.

يتعين على النظام الجديد أن يبدأ على الفور في عملية بناء مؤسسي شاملة، تشمل كافة أطياف الشعب السوري دون استثناء أو تمييز. لا يجب التمهل أو التراخي في بناء الدولة ومؤسساتها، وصياغة دستورها وقوانينها، وفقًا لمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. فأي تأخير في هذا المسار الحيوي، سيعني أن النظام الجديد غير صادق في وعوده، وخاصة أن هناك دولًا عظمى غربية تنظر بعين الشك والريبة إلى قيادات النظام السوري الجديد، ويعتبرونهم متطرفين خرجوا من عباءة القاعدة وداعش. إن الخيوط التي كانت تجمع المعارضة السورية بالجماعات المتشددة لا تزال حاضرة في ذهن بعض ساسة الدول الغربية، ولهذا يتعين عليهم إظهار كافة الأدلة الدامغة والبراهين القاطعة على انقطاع صلتهم بهذا الفكر المتشدد.

من جهة أخرى، فإن بعض القوى الإقليمية المجاورة لسورية، والتي اضطرتها الظروف السياسية الحالية على التخلي عن حليفها السابق، تترقب باهتمام بالغ كيف تجري رياح النظام الجديد، وهم ينظرون إلى الداخل السوري بعيون المتفحص المدقق. لذلك، على نظام سورية الجديد الحذر الشديد من خوض أية معارك مع أي جهة هو غير مضطر لخوضها. فخلال حكم نظام بشار الأسد، كان هناك تحالف دفاعي استراتيجي بين روسيا وسورية، وخلال أحداث غزة كانت إسرائيل تقوم -ببعض الحذر- بتوجيه ضربات انتقائية لحزب الله داخل سورية، بذريعة الدفاع عن حدودها، فهي تعلم أن روسيا لديها قواعد في سورية قريبة من حدودها، واستفزازها قد يشعل حربًا عالمية قريبة منها. لكن وبعد سقوط نظام الأسد، استباحت المقاتلات الإسرائيلية الأجواء والأراضي السورية، وقامت بتدمير مقاتلات وأسلحة وذخائر الجيش السوري، وهو ما يعني أن سورية غدت بلا جيش يحميها، مما دفع إسرائيل للتوغل داخل أراضيها لاحتلال المزيد منها، غير أن روسيا لم تتدخل وكأنها ترسل رسالة للشعب السوري مفادها «لقد ابتعد عنكم الأسد واقتربت منكم إسرائيل».

من المؤكد أن بشار الأسد ليس الصديق الحميم لإسرائيل، ولكنه بالنسبة لهم كان أفضل الأسوأ. ولذلك يبدو في الأفق -وخاصة خلال الأيام الماضية- أن هناك محاولات حثيثة -تجري من خلف الستار- لجر النظام السوري الجديد لصراع مباشر مع إسرائيل، حتى تقوم الأخيرة بتعقب قيادات النظام الجديد كما فعلت مع حزب الله، وكل هذا يفتح الباب على مصراعيه لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.

ولعل أكبر خطأ قد يرتكبه نظام سورية الجديد هو أن يعتقد أنه قد تمّت الإطاحة ببشار الأسد للأبد. فنجاح هذه الثورة غير مرهون بمدى قوة القوى المساندة للنظام السوري الجديد، سواء كانت إقليمية أو حتى دولية، وإنما مرهون بمدى قدرته على دعم الشعب السوري وتأييدهم له. ففي فقه السياسة لا توجد ثوابت، بل توجد مصالح، فصديق اليوم قد يتحول إلى ألد الأعداء إن تعارضت مصالحه مع هذا الصديق. وقد أثبتت الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة منذ قرابة العقود الخمسة صحة هذه النظرية، فالاتحاد السوفييتي «السابق» كان من أشد حلفاء النظام العراقي في السبعينات والثمانينات، غير أنه باع صدام حسين بثمن بخس في أقرب سوق للخردة بعد أن أصبح هذا النظام عبئًا عليه.

لا شك أننا سعدنا جميعًا بزوال حكم الطاغية الذي قتل مئات الآلاف من شعبه بعد نزوح الملايين منهم شرقًا وغربًا، غير أن فرحتنا لن تكتمل بسقوط النظام القديم فقط، وإنما باستقرار النظام الجديد والتفاف جميع أطياف الشعب السوري حوله، والتي لن تكتمل إلا بعودة السوريين اللاجئين لديارهم آمنين مطمئنين، وبانتفاء كافة الأسباب التي قد تمهّد لعودة الطاغية الجريح الذي لا يزال يداوي جراحه التي أدمت قلبه وعقله، غير مصدق أن حزب البعث الذي ظل يحكم سورية قد خرج من المشهد السياسي مذمومًا مدحورًا بعد أن ظل جاثمًا على صدر شعبه لأكثر من خمسة عقود.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة